1- قصتي مع الدكتوراه ^^

لا أدري كيف ومن أين أبدأ هذه السلسلة وأنا جالس في صالة استقبال الضيوف بجانب المدفأة أكافح البرد القارص الذي تعاني منه ولايات الشرق الجزائري في هذه الأيام، وأمام حاسوبي الذي أعتبره صديقي المقرب والشاهد الوحيد على كل ما سأكتبه في هذه السلسلة. ذكريات كثيرة تجول في خاطري بحلوها ومرها، تتراقص في شظايا مخيلتي المسكينة التي كادت أن تنطفئ في أكثر من ذي موقعة لولا أن سبقها لطف الله بها. التعب باد علي وجهي بعد أن خرجت من معركة دامت 5 سنوات وعيني اليسرى لا تتوقف عن الألم حيث لم تتعافى بعد من عملية قمت بها منذ أقل من شهرين فأنا أعتبرها إحدى ضحايا معركة الدكتوراه العصيبة، لكن رغم ذلك شيء ما بداخلي يدفعني كالعادة الى تجاهل الألم والمضي قدما في كتابة أولى فصول هذه السلسلة. في الحقيقة قررت البدئ في هذه السلسلة بسرد قصة نجاحي في الدكتوراه قبل الدخول في التفاصيل العلمية لا من باب التفاخر أو الخيلاء، بل لجعلها قصة ملهمة ومحفزة لكل طالب دكتوراه بان إتمام المذكرة على الرغم من صعوبته فهو ليس مستحيلا بل يحتاج لهمة وعزيمة وعدم الاستسلام. نسمع كثيرا خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي لقصص يأس وقنوط تنم عن صعوبة هذه المرحلة وكونها شبه مستحيلة خاصة في بعض التخصصات. لكن رغم ذلك تغيب عنا الكثير من القصص الناجحة في بلادنا، وأنا أرى اننا في أمس الحاجة لمثل هذه التجارب الناجحة لشحذ الهمم ورفع الروح المعنوية للطلبة.

نجاحي في الدكتوراه
 بدأت قصتي عندما تخرجت من المدرسة الوطنية المتعددة التقنيات ماستر في سبتمبر 2013، أين وجب البدئ في دفع الملفات الورقية للجامعات التي فتحت تخصصي. وكان أول تحدي أواجهه عدم وجود قانون واضح ينظم العملية خاصة للمهندسين المتحصلين على ماستر. مسابقة الدكتوراه في تلك الفترة كانت عبارة عن قوانين مفتوحة يمكن التلاعب بها من قبل الجامعات بسهولة. دفعت آنذاك 12 ملف في مختلف الجامعات التي فتحت تخصص الهندسة المدنية حتى أضمن نجاحي فأنا عادة لا أتهاون إذا تعلق الأمر بطموحاتي. ولازلت أذكر وجه العمال في البلدية عندما دخلنا عليهم أنا وزميلي بكومة من الملفات ليتم إمضاءها، قديما كان يتوجب المصادقة على كل النسخ في البلدية قبل وضعها في أي ملف إداري. وطردنا شر طردة وكان علينا أن نقسم الملفات بين 4 بلديات ونأخذ في كل يوم جزءا ليتم المصادقة عليه. ومن ثم أرسلنا الملفات في الحافلات لكل ولاية وقد ساعدنا في ذلك قائمة الاتصالات والمعارف الذين تعرفنا عليهم خلال فترة الجامعة. تم قبول ملفاتنا وقلوبنا ترقص فرحا، إلى أن فوجئنا في الأخير بعدم قبولنا للامتحان في أغلب الجامعات، الا في جامعتين فقط وبشق الأنفس. أولا لكون نظام المدرسة التي درسنا فيها يمنحنا شعبة عامة "ماستر هندسة مدنية" وكان هذا سببا كافي للجان العلمية في الجامعات لرفض ملفاتنا فاللجان العلمية تبحث عن أتفه الأسباب لطرد الطلبة الأجانب عن جامعتهم، بالإضافة الى كون النظام في مدرستنا يمنح معدلات ضعيفة للطلبة وكوني أيضا صنف ب، فالتحدي في المدارس العليا كبير بين الطلبة والحصول على معدل 12 يعني جهدا مضاعفا (على الأقل في وقتنا). المهم تم قبولي في جامعتين جامعة خنشلة والأغواط من بين 12 جامعة. قد ساعدني يومها أني حديث التخرج من الجامعة، معناه لازت لاما بتفاصيل المواد يعني لا أحتاج لوقت كبير لإعادة المراجعة واسترجاع تقنيات التمارين والصيغ التي يمكن أن تكون عليها (على الأقل النظرية). لكن في نفس الوقت كان أمامي تحدي أخر فقد كان معدلي ضعيف جدا بالمقارنة مع بقية الطلبة المقبولين في الامتحان خاصة بعد ضربه في المعامل بيتا 0,8 كوني صنف ب، وهذا نتيجة النظام المتبع في المدرسة الوطنية المتعددة التقنيات حيث لا يتخطى معدل الأول في القسم 13 من عشرين، فكيف بي أن أنافس طلبة يحملون معدل مسار الماستر لا يقل عن 15، فقد كان معدل النجاح في الدكتوراه مقسوما ما بين 50 بالمائة لمعدل المسار و50 بالمائة لمعدل المسابقة وكنت ملزما على الحصول على معدل عالي في المسابقة حتى أكون ضمن الناجحين. وحقا كان النجاح حليفي في جامعة خنشلة ودخلت الى مرحلة أخرى وسعادة لا توصف على الأقل في مدة وجيزة قبل أن أضرب في حائط الواقع والمجتمع.

                                   نسخة عن محضر المداولة لنتائج الدكتوراه 2013 بجامعة خنشلة

العام الأول من الدكتوراه:
بعد نجاحي في جامعة خنشلة التقيت بالأستاذ الذي فتح التخصص وكان صريحا معي في أول لقاء، جامعة خنشلة لا تحتوي على مخبر بحث وهذا حال أغلب الجامعات الجزائرية (مخابر على الورق فقط)، وسيكون من الأفضل أن أبحث عن موضوع خارجي في جامعة أكثر نشاطا. وكان هذا ما كنت أطمح له منذ البداية. اتجهت للمدرسة الوطنية المتعددة التقنيات حيث كنت أعرف كل طاقم الأساتذة هناك كوني طالبا متخرجا منها وعلاقتي كانت طيبة بأغلب الأساتذة حيث كنت طالبا معروفا في الجمعيات والمنظمات الطلابية. و استطعت حينها أن أحصل على موضوع خارجي. وكانت الأستاذة صريحة معي أيضا، الموضوع الذي اقترحته علي تم البدئ فيه منذ 15 عام ولم يستطع أي طالب المضي فيه كونه يعتمد على البرمجة ويتحاج لشخص خبير في برامج الحاسوب وله القدرة على تعلم الكثير من البرامج خلال مشوار الأطروحة بالإضافة الى العمل المخبري الذي يحتاج لعتاد لا ندري أين يمكن إيجاده، وكونه عمل جديد في الجزائر ولم يسبق العمل فيه من قبل. وهنا تكمن مشكل المواضيع المطروحة في التخصصات التقنية، عادة ما يغلب فيها الحظ، فقد تأخذ موضوعا لكن لا تعلم ماهيته، ولا طريقته ولا رأسه من عقبيه (مثل الزواج) تتزوج بالأطروحة ولا تدري هل هي قابلة للمناقشة أو مصيرها الطلاق والهروب الأبدي من عالم البحث العلمي. المهم قبلت الموضوع على مضض كوني لا أملك خيارا أخر، وأخذني الكبرياء والأنفة كوني حقا محترف برامج حاسوب ولم أعي صعوبة ما ينتظرني.
عامي الأول من الدكتوراه كان أسوئها على الاطلاق نتيجة خروجي من السجن الذي فرض علينا في المدرسة الوطنية المتعددة التقنيات حيث كنا نخوض 4 امتحانات في العام لمواد الهندسة بالإضافة الى امتحانين في مواد الماستر ناهيك عن الفروض التي ألفناها وأصبحت جزءا من حياتنا، وخروجي الى مرحلة الحرية أين لا يقيدنا لا امتحان ولا فرض ولا واجب منزلي ولا أي التزام، لم أعي صعوبة الأمر في وقتها بل ظننته من السهولة بمكان وكنت واثقا من نفسي كثيرا. حتى غادرني العام الأول بين النوم والتجوال والأعراس وببعض المشاغل التي كنت ملتزما وحريصا عليها رفقة بعض الأصدقاء خشية أن يذهب تعبنا طوال سنوات وتعب أجيال عهدت إلينا بأمانة كان التضحية بعام من حياتنا أهون من تركها تضيع من وراء ظهورنا.

العام الثاني من الدكتوراه:
دخلت العام الثاني بجد وحماس لاسترجاع ما أضعته في العام الماضي. وكان أول قرار اتخذته هو الانسحاب من كل عمل خارجي خارج أسوار الجامعة وسحب أي عهد أو التزام الفته كعمل خيري بين يدي مختلف الجمعيات الخيرية. لم يكن القرار سهلا وخاصة عندما تألف الجمعيات والمنظمات نشاطك وحركتك. رغم عتابي وهجري من قبل الكثيرين لكني لم أولي لهم أي اهتمام، عاملتهم ببرودتي المعتادة، فحلمي أعتبره فوق الجميع. كانت رؤيتي لمرحلة الدكتوراه كتكوين خاص ومهم في حياة الانسان على أن أكسب فيه أكبر قدر من المهارات والتقنيات وحتى الأصدقاء. انهاء الدكتوراه بطريقة الباكلاج بمقال واحد يحفظ لي كرامتي لم يكن من أولوياتي فأنا لا أحب أن أكون في أخر الصف ولم أكن أومن بالظروف، النتائج وحدها هي ما يتوق إليها الناجحون بغض النظر عن الظروف. تنتظرني في المرحلة القادمة زواج وبيت وأطفال وسيكون من الصعب في تلك المرحلة اكتساب أي مهارة جديدة في ظل المسؤوليات القادمة. لذا كان من الضروري أن اكرس كل وقتي ومجهودي في هذه المرحلة بأن أجعل من نفسي باحثا حقيقيا أو على الأقل أن أكتسب المهارات اللازمة لذلك.
في الحقيقة نظرتي للأمور كانت منطقية، أمتلك كل المؤهلات التي تؤهلني للمضي قدما في هذه الأطروحة إلا شيء واحد. بالرغم من كوني متفوقا في البرمجة والحوسبة وتعد هذه النقطة أهم ما سيساعدني على إتمام الاطروحة إلا أني كنت ضعيفا جدا في اللغات ولا أقوى على صياغة جملة صحيحة فما بالك بالتحدث بها أو كتابة مقال كامل وبدون نسخ ولصق، أحتاج للإنجليزية لكتابة المقال وللفرنسية لكتابة الاطروحة. أتذكر جيدا حرص الوالدة ونصائحها لدراسة اللغات في صغري لكني كنت مشاغبا وذو رأس إسمنتي، لا أتعلم إلا ما ينفعني. وضعت خطتي في العام الثاني لدراسة اللغات فقط. ومع مطلع العام استشرت الكثير من الأشخاص وخلصت الى التسجيل في مدرسة خاصة لدراسة الفرنسية والانجليزية تدريسا مكثفا. بدأت دراسة اللغات من جديد وأجلت موضوع الأطروحة الى العام القادم وكان أسوء قرار اتخذته. هذه المدارس الخاصة كانت ربحية فقط تعلمك الوهم وتأخذ منك النقود. مر عام كامل ووجدت أن مستواي لا يزال متدني. صحيح تحكمت في القواعد والمفاهيم لكن مستواي ضعيف جدا ولا يمكنني أن أقف أمام جمع من الناس للتحدث بطلاقة. نظام المدرسة كان يعتمد على تسويق الأوهام وأفكار التعظيم حتى نستمر بالدراسة في المدرسة الخاصة ونستمر بضخ الأموال، يقولون لنا في كل مستوى بأننا في تحسن وسنبدأ بالتطبيق في المستوى القادم وكنا نسعد بذلك الوهم الذي أدخلونا فيه. لكن في الحقيقة كان الأمر واضحا من البداية، فقط نحن البشر عادة ما نمنع أنفسنا من التفكير بعقلانية في لحظات السعادة المؤقتة وارتفاع هرمون الدوبامين. مر العام الثاني فاشلا ولم أحقق أي شيء يذكر كانت خطة غبية جدا، خرجت خاسرا بنسبة 1000 بالمائة وأصابني إحباط شديد وأصبحت لا أطيق مقابلة أي شخص أمامي. فقط أتظاهر بالقوة والتماسك فقد كانت طبيعتي، وهذا ما تعلمناه في العمل النقابي والجمعوي، في أسوء حالاتنا لا بد أن نتظاهر أمام المسؤولين بالقوة والثبات حتى لا يجتثوا مفاصلنا إن هم شعروا بأي ضعف او تردد. خرجت من العام الثاني مدانا بمبلغ كبير من المال للدراسة في المدرسة الخاصة وخاسرا ل 365 يوم لم أحقق فيهم أي شيء. وكان أشد ما ألمني ضحكات السبليين الذين كانوا يسخرون مني لدراسة اللغات ولسان حالهم يقول لا داعي أن تتعب نفسك لأنك لن تتعلم أبدا ومن هنا بدأت المعركة مع المجتمع تحمى الوطيس. لعل أشد ما يعاني منه طالب الدكتوراه هو مجتمعنا المتخلف. مجتمعنا لا يتعامل الا بالظاهر ولا يقيم وزنا للظروف والأسباب. وحتى في المراحل والسنوات القادمة، فإن أسوء عدو واجهني كطالب دكتوراه هو المجتمع. مجتمعنا يسير بعادات وتقاليد بالية اكل عليها الدهر وشرب. طالب الدكتوراه في الجزائر الذي ضحى بعمله وصحته وراحته وحقوقه ليتم تعليمه (في الأساس لخلق حلول لمشاكل يعاني منها المجتمع) لا يمكن بتاتا مقارنته ماديا بشخص ترك تعليمه منذ أعوام وأهتم بالتجارة وجمع المال منذ تلك الفترة، لكن مجتمعنا بسهولة يقارن بينهما في إشارة الى فشل طالب الدكتوراه وهو لحد الساعة "طالب". في مجتمعنا يعيش الكثير من السلبيين الفاشلين وحسب علماء النفس فإن هؤلاء الفاشلين في حياتهم يميلون إلى البحث عن أخطاء الناجحين لانتقادهم والتقليل من شأنهم لكي يشعروا أنهم أفضل منهم، وهؤلاء الكثيرين في مجتمعنا هم أعداء طالب الدكتوراه. ولعل أفضل ما تعلمته خلال تلك الفترة هو تجاهل هذا الصنف من الناس ومعاملتهم ببهرجة تليق بهم. المهم خرجت من العالم الثاني ومعنوياتي في الحضيض ب 3 قرارات، الأول: لا وجود من اليوم لشيء اسمه عطلة، الثاني علي أن أعمل لأسترد المال الذي استدنته والثالث علي أن أجد خطة منطقية ومضمونة لاسترداد ما فاتني مع تحقيق الشرطين الأولين وكان ذلك شبه مستحيل على الأقل في ذاك الوقت.

العام الثالث من الدكتوراه:
دخلت العام الثالث شبه محطم معويا وماديا وليس في جعبتي أي شيء، وكان علي إيجاد خطة منطقية على الأقل لإقناع أستاذتي المشرفة التي كانت تشتاذ غضبا مني لكوني لم أفعل شيئا ملموسا لتحقيق هذا الموضوع الذي عجز عنه الكثيرين قبلي، وكان احتمال نزع الموضوع مني ممكنا. في تلك العطلة الكئيبة التي أمضيتها في الإقامة الجامعية بفطورها وصيامها محطما بين نائم ومفيسبك ومشاهد للرسوم المتحركة، كانت الرسوم المتحركة هي متنفسي للفرار من أسئلة المجتمع التي لا ترحم. خاصة ناروتو فقد كان يستهويني هذ الشخص الفاشل الغبي الذي لا يتقن شيئا لكنه كان شجاعا ذا مبادئ ولا يفشل أبدا ودائم المحاولة، فقد كان يشبهني في طفولتي. كنت مجبرا على إيجاد خطة جهنمية خلال تلك الغيبوبة اللعينة، على الأقل لكسب تعاطف الأستاذة وجعلها في صفي قبل أن أبدأ مشواري في العام الثالث. في تلك الأيام قمت باستغلال بعض الوقت لتصميم برنامج حاسوب باستخدام فيجوال بيسك يقوم على تنظيم البيانات وتخزينها ومن ثم تحليلها حسب أهدافنا. وكم كان سهلا تعلم برنامج فيجوال بيسك واستخدامه كلغة برمجة للربط بين الواجهات المصممة بالفوتوشوب وقواعد البيانات المصممة مسبقا بأكسس لأني في الحقيقة أملك خبرة مسبقة في البرمجة. أقنعت الأستاذة المشرفة بأن هذا البرنامج صعب جدا وقد أخذ مني عاما كاملا من العمل (غفر الله لي) وأعجبها جدا هذا العمل فأمضت لي خطاب التقدم بإيجاب، وخرجت من المحنة الأولى كما تخرج الشعرة من العجين.

                                                   صور للبرنامج الذي قمت بتصميمه

بعد أن كسبت تعاطف الأستاذة المشرفة واستطعت إقناعها بأن تمنحني أسبوعا حتى اتيها بخطة منطقية لتنفيذ البحث. فكرت كثيرا خلال ذلك الأسبوع واستشرت الكثير من الأصدقاء الذي أثق فيهم. البرنامج الذي صنعته لا يكفيني لإتمام الاطروحة احتاج لبيانات تجريبية لأحللها، وأحتاج لتعلم اللغات، وأحتاج للعمل وكسب المال .. فكيف لي أن أتي بخطة تجمع بين 3 متناقضات !!!! نصحني أحد الأصدقاء بالبحث في القوقل سأجد اشخاص مثلي كانوا يعانون من مشاكل وقاموا بحلها وسيكون اختصارا للوقت لو طبقت حلولهم مباشرة ... وحقا قمت بالبحث في القوقل واليوتوب عن أجوبة لأسئلتي ووجدت الكثير من بائعي الوهم (محترفي الكوبي كولي ممن يبحثون عن الشهرة ورفع نسبة المشاهدات) كما وجدت الكثير من الجديين الذين يعرضون حلولا لمشاكل واجهوها فعلا. وكان كلامهم الواقعي وتناسق أفكارهم في عرض الحلول يدل على صدق قولهم .. المهم وجدت حقا الكثير من الحلول يطرحها طلبة عانوا من حالات أسوء مني لكنهم بالصبر والإصرار استطاعوا تجاوز محنهم. على قدر ما كانت تلك الحلول صعبة على قدر ما رفعت من معنوياتي قليلا، على الأقل الان أملك نظرة واقعية لما يجب القيام به. بالنسبة لموضوع اللغات أسهل وسيلة لتعلم اللغة هي تطبيقها مباشرة (كتابة، تحدث، سماع ....). بالنسبة للعمل التطبيقي كان امامي خياران، إما أن أضع برنامج لتجارب مخبرية وأبحث عن الجامعات التي تملك تلك التجارب، ثم أضع عندهم طلب للسماح لي باستخدام تجهيزاتهم، ثم انتظر الى ان يحين دوري بين الكثير من الطلبة وفي وقت الانتظار أقوم بجمع عينات التربة من منطقة الدراسة. وكان خيارا سيئا جدا حسب الأشخاص الذين استشرتهم (قدماء الدكتوراه)، بالإضافة الى كونه يأخذ وقتا عظيما في انتظار تصريح الجامعات لاستخدام وسائلها، ولكون عينات التربة كثيرة جدا سيأخذ مني أعوام لمعالجتها جميعا، بالإضافة الى كونها تفقد خصائصها مع مرور الوقت. علاوة على ذلك كل تجربة نقوم بها في جامعة معينة فهناك تجارب نجدها في الجامعة أ ولا نجدها في ب، وهناك تجارب أخرى نجدها في ج. للأسف الشديد هذا هو حال مخابر البحث في جامعتنا الجزائرية. وأحيانا أخرى يتنظر الطلبة 6 أشهر إذا تعطلت احدى الوسائل حتى يأتي المهندس والتقني من الخارج لمعالجة الأمر. وفي الأخير تكون النتائج غير متناسقة وغير منطقية ومن المستحيل أن ننشرها في مجلة تحترم نفسها. أما الحل الثاني فهو جمع البيانات من المخابر الخاصة (بيانات المشاريع التي تم تنفيذها سابقا) واستخدامها مباشرة كبيانات تطبيقية، وهذا الحل صعب أيضا ولم يسبق أن جازف أي طالب بإتباعه لعدة أسباب أهمها: مخابر البحث التي تربح المشاريع الجيوتقنية بالملايير لا يمكنها أن تساعد في عمل بحثي يعمل على اختصار العملية الجيوتقنية رياضيا فهذا سيفقدهم لقمة العيش التي اعتادوا على كسبها بسهولة وثانيها أن مخابر البحث والشركات لا تملك ارشفة إطلاقا، الا بعضهم فقط يملكون أرشيف مغبر من زمن كان وأخواتها. أما العمل فهو قفازة وشطارة وواسطة وفيه الكثير من المراحل التي يعلمها الجميع، بالإضافة الى كون ديبلوم المدرسة الوطنية المتعددة التقنيات ذو سمعة طيبة عند الشركات.
وضعت خطة العام الثالث للدكتوراه بأن أبدأ أولا في زيارة الشركات العامة والخاصة، لجمع البيانات الجيوتقنية أولا واستغلال هذه الفرصة لوضع السيرة الذاتية، مع استثمار الفترة الليلية بمشاهدة رسوم متحركة بالفرنسية في الست أشهر الأولى والانجليزية في الثانية، وفي نفس الوقت استغلال فترة السفر بين الولايات لقراءة كتب وجرائد بالفرنسية والإنجليزية. أعجبت الأستاذة بالخطة على صعوبتها وقامت بالإمضاء على 56 طلب للبيانات الجيوتقنية كونها مسؤولة القسم. وبدأت في مرحلة جديدة أخذت مني 3 أشهر.

 سافرت خلال تلك المدة الى 56 شركة عامة وخاصة في عدة ولايات لأضع طلبات لبيانات جيوتقنية عند أعلى هرم في كل شركة واستغليت الفرصة لأضع سيرتي الذاتية أيضا وعانيت الامرين في بيروقراطية الشركات مابين الانتظار والطرد (وكانت تقتلني ثم تحييني كلمة ارجع غدوا) وفي أغلب الحالات ألتقي المدير العام للشركة بعد جهد جهيد وأحاول أن أسوق له أن الدراسة ستكون نافعة ومفيدة لشركته فيقابلني بالرفض لعدة أسباب يسهل اختراعها. ردت علي إيجابا فقط 4 شركات وأعطتني بعض من مشاريعهم بطبعة ورقية لكن هذا لم يكن كافيا ولا يرضي طموحاتي. رغم لحظات اليأس والقنوط والكلمات السلبية التي كنت أسمعها من المسؤولين (أخطيك من البروجي هذا محال تكملوا) لكني ازدت عنادا لإكمال الاطروحة وربما استيقظ في داخلي شيء من أصولي الشاوية، يستحيل أن أرجع الان. بعد مرور 3 أشهر ايقنت أن هذا الحل غير فعال وسيضيع وقتي سدى وأنا من ولاية لأخرى دون جدوى، فكان علي استخدام السلاح السري في الجزائر "المعارف". في الإدارة الجزائرية إذا لم تذهب بواسطة فعليك أن تيأس من قضاء حاجتك. كان علي التواصل بواسطة مع عدة أساتذة ومسؤولين في الوزارة، الذين بدورهم توسطوا لي عند الشركات الدولة التي يعرفونها لأتحصل علي بيانات جيوتقنية (كون شركات الدولة تنال الحظ الأكبر من المشاريع). فوافقت أخيرا 12 شركة أخرى بفضل المعارف والواسطة، لكن بشروط تختلف فيما بينهم. أغلبهم لا يسمح نظامهم الداخلي بإخراج التقارير الجيوتقنية من أرشيفهم، لذا اشترطوا علي أن أدخل وأصور أو أكتب ما يوجد في التقارير دون اخراج أي واحد منها من الأرشيف، وبعضهم بضرورة ذكرهم في المقالات والمذكرة، وواحد فقط اشترط علي أن أضعهم ضمن مؤلفي المقال. فرحت كثيرا ووافقت في الحين لكون جزء من هدفي تحقق فلم أكن في وضع قوة يؤهلني لوضع شروط، وكان علي أن أجد حلا سريعا لأخذ المعلومات. الماسح الضوئي سيأخذ مني وقتا طويلا أثناء تفكيك التقرير قبل مسحه ثم إعادة تثبيته، التصوير أيضا سيأخذ وقتا أثناء محاولة البحث عن وضعية للألة في مستوى يسمح بتصوير كل الصفحة، وكان علي التفكير في حل لربح الوقت وبأقل جهد وتكلفة. قمت بصناعة مجسم هرمي من الكرتون بثقب من الأعلى بحسابات تتيح للألة المصورة الموضوعة من خلال الثقب أن تصور بدقة التقرير الذي أدخله في الكرتونة السفلية، وهكذا أقلب الصفحة بيد وأصور بيد أخرى فلا تأخذ مني الا ثانية واحدة للصفحتين. في ظرف شهرين ونصف قمت بتصوير كل الأرشيف الخاص ل 12 شركة بمنطقة الدراسة باستخدام هذا المجسم الذي يضحك عليه كل من يراه في اول وهلة. لكن في الأخير احتفظ فريق الارشفة بالمركز الوطني للبحوث التطبيقية في هندسة الزلازل CGS بهذه الالة كذكرى نظير قيامي برقمنة أرشيفهم في شهر وأسبوع بعد أن توقعوا أن أقوم بذلك في عام كامل.
                                     الألة الكرتونية الناسخة التي قمت بصناعتها ......
                                     صور أحد الأرشيفات التي قمت بنسخها لتحويلها لجداول ....
بعد ان جمعت أكثر من 12000 ورقة مصورة، كان علي جعل المعلومات والبيانات الموضوعة فيها على شكل جداول مترابطة يسهل استخدامها في مرحلة التحليل. فالتعامل مع قاعدة بيانات يختلف تماما من التعامل مع جداول. لذلك قمت أولا بتعديلات طفيفة على البرنامج الذي قمت ببرمجته سابقا وبدأت بتخزين المعلومات التي جمعتها في البرنامج في مدة 3 أشهر. لأجمع في الأخير ما يقارب 1350 جسة، وكانت اخر المراحل بأن استخدم قوقل ارث للبحث عن احداثيات الجسات والعينات. وكم كنت سعيدا بانتهاء العام ودخول عطلة الصيف وقد جمعت البينات في برنامج من تصميمي وفي نفس الوقت اعتدت على الفرنسية والانجليزية وأصبحت على الأقل افهم ما يقال أو ما يكتب دون الحاجة للترجمة وبقي امامي تحدي تحليل البيانات والخروج بنتائج وتطبيق ما تعلمته من اللغات كتابة وإلقاءا.
في عطلة الصيف بدأت العمل في عدة شركات عامة وخاصة، وتدرجت في عدة أعمال .. وفي نفس الوقت كنت أستغل فترة الفراغ لتحميل المقالات العلمية والمذكرات لدراستها وتلخيص كل منها في جداول أعددتها مسبقا. الى غاية مدخل العام الرابع اين توقفت عن العمل وبدأت مرحلة جديدة لكتابة المقالات والمشاركة في الملتقيات.

العام الرابع من الدكتوراه:
العام الرابع كان أفضلهم على الاطلاق، مع مدخل العام كنت أملك العديد من البيانات المرتبة والمهيكلة حسب أسلوبي الخاص في البرنامج. بدأت أولا بكتابة بعض المقالات الصغيرة وكل مرة ابعث موضوعا لملتقى علمي، بهدف تطبيق ما تعلمته من اللغات كتابة وإلقاءا. وكم كنت محرجا عندما وقفت في أول ملتقى بين يدي اللجنة مبهما لا اكاد انطق جملة صحيحة. وكم ضحك علي بعض السلبيين الذين يشاركون عادة بملصق، يلصقونه ويهربون بعيدا خفية الاحراج الذي يلقونه أمام الأساتذة. أما أنا فقد كنت أتجنب الملصق واشارك بعرض شفوي ولا يهمني أقوال الناس ما دمت أتعلم من أخطائي. شاركت في 13 ملتقى بين الفرنسية والانجليزية خلال عامين وفي كل مرة يتحسن فيها مستواي كتابة والقاءا، وفي كل مرة أتجاوز عقدة الوقوف بين أساتذة وعرض ما أعرفه في الموضوع. بينما بقي السلبيين الذين كانوا يضحكون علي وأنا مبهدل امام لجنة الأساتذة في مستواهم لم يزيدوا عليه قيد انملة. وفي نفس الوقت قمت بتجريب جميع البارامترات التي جمعتها على امل أن أجد بارامتر يعطي نتائج طيبة لأبدأ المقال به لكن دون جدوى، الطريقة الكلاسيكية كانت بلا جدوى. فكنت ملزما بزيارة المعلم قوقل مرة أخرى ومطالعة ما فعله الباحثين من قبلي فاهتديت الى طرق الذكاء الاصطناعي وبدأت بتعلم الماتلاب وبعض لغات البرمجة. وأخيرا طرق الذكاء الاصطناعي أعطت نتائج جيدة أثناء تطبيقها على قاعدة البيانات في محاكاة تعقيد التربة وحصلت على نماذج رائعة لتوقع بعض الظواهر الميكانيكية للتربة. وبدأت بسذاجة بكتابة أول مقال علمي لي وانا فرح مستبشر دون أن أعي ما ينتظرني.
كتبت أول مقال لي مع مدخل ديسمبر وصححته عند 3 أساتذة إنجليزيه لأضمن سلامته اللغوية، فأنا عادة أستعين ب3 أساتذة زملاء من فوجي لتصحيح المقال ثم أبعثه لأستاذ متخصص في المجال قبل نشره. لأتفاجأ في اليوم الموالي بالرفض من قبل المشرف على المجلة دون أسباب !!! أذهب مرة أخرى لقوقل واحاول ان افهم لماذا تم الرفض وأغير منه قليلا وأضعه في مجلة جديدة، ليتم رفضه مرة أخرى وبقيت على هذا المنوال بين بعث ورفض للمرة الثامنة حتى أصابني يأس شديد وتوقفت عن نشر المقال ضنا مني أن كل ما فعلته كان سخافة ولا يصلح لان يكون مقالا. المجلات صنف أ صعبة للغاية وعليها منافسة شرسة من قبل الباحثين من جميع انحاء العالم فكيف يقبلون ببحث الطالب المغبون على أمره الذي لا يسمع بع أحد ويرفضون بحث بروفيسار من أمريكا. في الحقيقة ما يهلك الباحثين الجزائريين هو التفكير بعاطفة وذاتية. العاطفة غير موجودة عند الباحث الأمريكي والاوروبي، فهم لا يؤمنون إلا بالنتيجة والهدف ويتعاملون بمبدأ البراغماتية، وهذا ما يغيب عندنا. كانت فكرة الانتهاء من الدكتوراه دون الخروج لأوروبا والانفتاح على باقي المجتمعات ساذجة وغير ممتعة بالنسبة لي، فالمثل يقول:" يسافر الإنسان الحكيم لكي يكتشف نفسه "، لذا حاولت المشاركة في برنامج التكوين الإقامي PNE فقد كان البرنامج حلم كل باحث جزائري يبحث عن مستقبل واعد، بعثت الكثير من الطلبات لعدة أساتذة واستطعت الحصول على 4 رسائل استقبال، لكن خاب ضني لاحقا لتوقيف البرنامج ذاك العام من قبل الوزارة وجعله خاصا بطلبة الكلاسيك بالعام الموالي. لكن رغم ذلك لم أيئس ولم أنسحب، بل عدلت الأشرعة وحاولت البحث عن طريق أخر، قدر الله لي فيما بعد أن ربحت منحة لرومانيا مدتها 3 أشهر وكالعادة التعامل مع الطرف الأوروبي كان سهلا ميسرا، بينما الطرف الجزائري اضطررت للبحث عن واسطة حتى أخذ التصريح من الجامعة للذهاب للمنحة (رغم انهم لم يدفعوا فيها فلسا واحدا). قابلت هناك الأستاذ ألكس وهو بروفيسار في مجال الهندسة المعمارية، رغم اختلاف التخصص إلا أني استفدت منه كثيرا. أستاذ يملك 111 بحث ما بين مقال وملتقى. وليس من طينة أغلب أساتذتنا مقالين او ثلاث للتدرج في الوظيفة. الأستاذ في أوروبا متوفر طوال اليوم ويرد على الايمايل مباشرة. كنا نلتقي مرة في الأسبوع. اعطيته المقال نظير إضافة اسمه، فالأوروبي مساعد لأبعد الحدود لكنه لا يفعل شيئا مجانا. قام الأستاذ بإلقاء نظرة على مقالي، أعجبه من المبني والتسلسل لكنه قام بتغيير جذري عليه وبدأ في تحليله وتوقع ما يفكر به المصحح ذو المستوى الدولي أثناء قراءة المقال. في الحقيقة أصابني الذهول، مقالي كان جيدا ومقبولا خاصة كون الدراسة أكثر موثوقية نتيجة لقاعدة البيانات التي جمعتها هكذا وصفه الأستاذ، لكن المشكلة أنني لم أحسن التسويق لعملي، أتواضع أحيانا في غير مواضع التواضع، أقوم بإيحاءات يفهمها المصحح الخبير في الميدان أنني غير منهجي وكثير الكلام. كثير من النقاط التي طرحها وشرحها لي الأستاذ يستحيل لي أن أفكر فيها أصلا، وخاصة شخص مبتدئ مثلي. نقاط حول المنهجية، الإضافة العلمية، التحليلات، وحتى المقدمة والخاتمة لها منهجية يجب ان تكتب عليها، وحتى طريقة بعث المقال والرسالة التي نكتبها لرئيس تحرير المجلة فيها نهج وإيحاءات يجب كتابتها والتدليل عليها، اجتناب البلاجيا أيضا له طرق وأساليب. عدلت المقال حسب توصيات الأستاذ وبعثته لمجلة علمية صنف ب لأنه كان يرى أن الإضافة العلمية لم تكن في المستوى وحتى أضمن على الأقل مقال للمناقشة فتم تمريره للتصحيح لأول مرة. بدأت الأن مرحلة جديدة بعد أن عرفت طريقة ومنهجية وخفايا كتابة المقالات، بدأت بالإنتاج العلمي وكلي عزيمة وإرادة. قمنا بكتابة 6 مقالات فقد جمعت قاعدة بيانات فيها الكثير من البارامترات ويمكنني استخراج عشرات المقالات منها.

العام الخامس والأخير:
في الحقيقة المقالات صنف أ وب كانت صعبة جدا وتستغرق وقت كبير للرد. وحتى بعد الرد فهي تطلب منك تصحيحات ويطرح عليك المصححين الكثير من الأسئلة التي يجب الرد عليها بحذر ودهاء. لذلك في وقت انتظار رد المجلات على مقالاتنا ومع مدخل العام الخامس بدأت في كتابة الاطروحة والتي أخذت مني 3 أشهر وكذلك ساعدني الكثير من الأصدقاء المنضمين لفوجي "معا للتحضير للدكتوراه ل م د" في تصحيح المحتوى، فمستواي في الفرنسية لم يكن ممتازا. وبعد الانتهاء منها كان في جعبتي مقال صنف ب ومقال صنف C. دفعت ملف مناقشة الأطروحة في فيفري لكن الجامعة رفضت قبول الملف بمقال صنف ب رغم أن الوزارة شددت على قبول صنف ا أو ب للتخصصات العلمية. كان بإمكاني الذهاب للوزارة وتقديم شكوى فقد كنت مدير فوج مشهور للتحضير للدكتوراه وعلى علم بكافة القرارات والمرسومات الوزارية الجديدة، لكني انتظرت صدور باقي المقالات التي كانت قيد التصحيح حتى ألجم أفواههم. في تلك الفترة كنت لازلت مواظبا على تطبيق اللغات، فمستواي على الرغم من ارتفاعه تدريجيا إلا أنه لم يصل للمستوى المرغوب. مشكلتي الحقيقة التي طرحتها بعد عامين من التطبيق اللغوي هي ذاكرتي الضعيفة. حتى في حياتي اليومية فإن ذاكرتي هي أكبر عدو خائن في حياتي، دائما ما تخونني خاصة أمام الغرباء. كان محتما علي أن أبحث عن حل مستعجل لهذه المشكلة، لا يمكنني المواصلة بهذه الوتيرة، وصلت إلى درجة التشبع خاصة بعد أن امتلأت كناشتي التي اكتب فيها الألفاظ الجديدة ثم أحاول مذاكرتها كل صباح، حتى مع محاولة تطبيق هذه الألفاظ فإني أنساها مع الوقت وأحتاج إلى وقت طويل لتذكرها، بينما أنا أطمح للوصول الى درجة استحضار الكلمة المناسبة في جزء من الثانية حتى استخدمها في المحادثة. العم قوقل لم يكن نافعا كثيرا لحل هذه المعضلة، الكثير من رواد التنمية البشرية بائعي الوهم كانت حلولهم غير واقعية البتة، هناك من يحاول تحفيز عقلك من خلال إدخالك في حالة تشبه الابنوز لمحاولة برمجة عقلك على أنه ذو ذاكرة قوية، وهناك من ينصحك بأكل أو شرب بعض الأطعمة، وهناك من يأمرك بالدعاء، .... لكن جميعها كانت غير مقنعة بالنسبة لي، وحتى الدعاء إن كان سيرسل لك من ينقذك من الغرق لكنه لن يعلمك السباحة. أخبرني أحد الأصدقاء أن هناك تقنيات سحرية يستخدمها كبار الرياضيين في العالم، وهناك بطولات عالمية ومحلية للذاكرة، أبطالها يستخدمون تقنية تسمى ب "قصر الذاكرة". ومرة أخرى أحج للعم قوقل للبحث عن هذه أسرار هذه التقنية. كانت تقنية رائعة بحق تقوم على استخدام الصور والخيال في سبيل تخزين الأرقام والكلمات وحتى الجمل. قرأت الكثير من كتب توني بوزان المعروف بأستاذ الذاكرة واستطعت أن أصنع 5 قرى في مخيلتي بدل قصر، استوحيتهم من القرى المخفية من مسلسل ناروتو، أجول فيهم في نهاية كل أسبوع لأتذكر ما خزنته من مصطلحات. ساعدتني هذه التقنيات كثيرا، وحتى أثناء أخر ملتقى قمت به والذي ألقيته لأول مرة بالعربية استطعت أن أحفظ جميع المصطلحات العلمية الجيوتقنية بالعربية في ساعة واحدة، ولا أزال لحد الساعة أتذكر تفاصيل المعركة الوهمية التي صنعتها في مخيلتي لتذكر المصطلحات بالترتيب المناسب.
 في أواخر شهر ماي قمت بإعادة دفع الملف مرة أخرى وفي جعبتي مقالين صنف أ (أحدهما نشر والأخر في طريق النشر) ومقالين صنف ب ومقالين صنف C بالإضافة الى 13 مشاركة في الملتقيات العلمية. وحتى بعد دفع الملف لازمتني غصة حقيقة حول سبب هجران اللغة العربية في التخصصات العلمية ومعاملتها بإهمال ودناءة لا تليق بها، بين فئة تؤمن أن العربية تعني التخلف والبداوة، وحقا استغليت ذاك الوقت بين دفع الاطروحة ومناقشتها لكتابة وإلقاء مقال باللغة العربية في ملتقى علمي دولي مثبتا أن العربية كغيرها من اللغات تنشط بنشاط أبنائها، فالعيب فينا لا فيها. والمقال حاليا في طور النشر ان شاء الله بعد اتصال بعض الإخوة ممن حباهم الله خدمة هذه اللغة.
ملف المناقشة كان ثقيلا هذه المرة ومن الصعب رفضه من قبل الإدارة الجزائرية التي ألفت اللعب على أوتار المواطن هروبا من واجباتهم وأعمالهم. فتم قبوله في اللجنة العلمية في جوان 2018. بقيت لمدة 6 أشهر وأنا أسعى بين العمل حينا والجامعة والمخبر حينا أخر بين التعسفات الإدارية التي شيبت رأسي إلى أن ناقشت الاطروحة في 12 ديسمبر 2018 ونلت درجة مشرف جدا مع تهنئة لجنة التحكيم.

ختاما:


دخلت عالم الدكتوراه جاهلا، أصبت بكثير من النكسات كما يعاني أي طالب في الجزائر، ضحكت علي الأستاذة المشرفة لما صارحتها في العام الثالث اثناء اعداد الخطة بأني سأنشر مقالين وكانت محقة لما قالت "الأمر ماهوش ساهل أوليدي"، التخصصات التجريبية صعبة النشر. تجاهلت أقوال المجتمع واضطررت للتعامل مع عامة الناس ببرودة وتجاهل يليق بهم لأنهم لم ولن يفهموا أعذاري حتى ولو شرحتها. لكن رغم ذلك لم أستسلم يوما واحدا، فشلت كثيرا، لكني كنت أحاول أكثر. يشهد الله أني حتى في لحظات اليأس والقنوط فقد حاولت ألا أعامل الناس بمزاجية وألا أرد أي شخص يطلب المساعدة فقد نشأنا في أسرة متواضعة كريمة تقيم للأخلاق وزنا. الأشخاص الذين ضحكوا علي أنفا لما بدأت دراسة اللغات ولما كنت أتبهدل أثناء إلقاء الملتقيات باللغات الأجنبية، أغلبهم لا يزالون يتصارعون لحد الساعة للذود بمقال واحد مهما كان تصنيفه للانتهاء من محنة الدكتوراه بينما انتهيت من الدكتوراه ب 6 مقالات. فرق بين من يرى الأطروحة منصبا وترقية في الجامعة ومن يراها مرحلة وحياة وسبيل للتفوق والوصول للقمة، لا أعد القيام ب6 مقالات شيئا عظيما أو معجزا فهناك من ناقش مذكرته وفي جعبته 40 مقالا، وربما أكثر، بغض النظر عن ظروف طالب الدكتوراه في بلادنا مقارنة مع نظيره الأوروبي. نملك الكثير من الناجحين في بلادنا لكن ينقصنا أن نجعل الرجل المناسب في المكان المناسب. تعلمت من الدكتوراه أن أعيش مختلفا عن الجميع، تعلمت الصبر، التأني والسيطرة على ذاتي، تعلمت ألا أحكم على الناس بمظاهرهم، تعلمت حسن الظن بالله وبالأخرين خارج حدود السذاجة، تعلمت أن خلف كل مشكلة هناك حل مفتاحه الصبر وأسنانه التخطيط، تعلمت أن أتوكل على الله ثم أسعى سعيا منطقيا فالنصر لا ينزل من السماء دون سعي صحيح، تعلمت الهدوء والتسامح والمعاملة مع الغير والاستماع والانصات لهم، تعلمت ألا أرد طالب مساعدة لأننا نعتقد من ديننا أن أفضل الناس أنفعهم للناس، كما أن الأيام دول وتارات .... صحيح أني لم أصر باحثا بعد، إلا أني تعلمت وعرفت الطريق الذي سيجعلني باحثا. تعرفت على الكثير من الأصدقاء، ساعدني الكثير من الزملاء الذين لم ولن أنسى معروفهم ما حييت فكانت هذه المذكرة نتاج تعبهم ومساعدتهم ودعواتهم. ساعدتني الأستاذة المشرفة بقدر استطاعتها. ساعدني والدي وكانا دائما الروح التي أستعيد منها قوتي. خرجت مدانا بمبلغ كبير من المال فكل الملتقيات والرحلات والتكوينات كانت من جيبي، لكني لست نادما، لأن كل ذلك لا يقارن مع ما كسبته من أصدقاء، تجارب، ذكريات وعلوم. كانت حصيلة 5 سنوات من الكد والجد (من ديسمبر 2013 الى ديسمبر 2018) ... 6 مقالات علمية و14 مشاركة في الملتقيات الدولية ومذكرة بحث التي شاركت فيها كل الثروة التي جمعتها خلال مشواري، ونشرت في ملحقاتها كل قاعدة البيانات التي جمعتها حتى أختصر الطريق للطلبة القادمين الذين يعانون من نقص المعلومات الجيوتقنية لأسهل لهم مرحلة الدراسة التطبيقية كونها من أصعب المراحل في التخصصات التقنية.

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. لحمد لله الذي وفقك ويسر أمرك وبارك مجهوداتك
    صحيح أن الطريق طويل وما دمت تجمع بين حب طلب العلم ونفع الناس ولديك خبرة في الجمعيات والمنظمات فالأكيد أنه ستكون لك رؤية وجهد في سبيل المساهمة في إصلاح منظومة التعليم العالي وتسهيل البحث للطلبة الراغبين فيه ودفع المجتهدين للتفوق أكثر والإستفادة من كفاءاتنا..
    الطريق طويل وشاق، لكنك أهل لها أخي الكريم.

    ردحذف
    الردود
    1. ان شاء الله نأمل أن نكون حقا أهلا لذلك .... ^^

      حذف
  3. السلام عليكم
    نشكرك جزيل الشكر على المجهودات الجبارة التى تبذلها لانارة طريق العلم وجعلها الله في ميزان حسناتك.
    واكثر ماجلب انتباهي الى منشوراتك هو ميولك الى البساطة وعدم التكبر وهذا ان دل فانما يدل على تربيتك الحسنة فجعلك الله فخرا لوالديك ولعائلتك. وكذالك استعمالك للغة العربية فهو دليل غيرتك على لغة القراءن الكريم ولغتنا الام لان من لا يفتخر بلغته يتعبر ناكرا لاصله. فلا تطور للشعوب باستعمال لغات غيرهم ونكرانهم لذاتهم.
    وبدون اطالة بارك الله فيك ولك والعقوبة للاستاذية ان شالله.
    وبالله التوفيق.
    أخوك المهندس :عبدالكريمي عبدالرحمن

    ردحذف
  4. السلام عليكم
    نشكرك جزيل الشكر على المجهودات الجبارة التى تبذلها لانارة طريق العلم وجعلها الله في ميزان حسناتك.
    واكثر ماجلب انتباهي الى منشوراتك هو ميولك الى البساطة وعدم التكبر وهذا ان دل فانما يدل على تربيتك الحسنة فجعلك الله فخرا لوالديك ولعائلتك. وكذالك استعمالك للغة العربية فهو دليل غيرتك على لغة القراءن الكريم ولغتنا الام لان من لا يفتخر بلغته يتعبر ناكرا لاصله. فلا تطور للشعوب باستعمال لغات غيرهم ونكرانهم لذاتهم.
    وبدون اطالة بارك الله فيك ولك والعقوبة للاستاذية ان شالله.
    وبالله التوفيق.
    أخوك المهندس :عبدالكريمي عبدالرحمن

    ردحذف
  5. يعجز لساني عن التعبير ماذا عساي ان اقول كفاح ما بعده كفاح حقيقة ما ادهشني هو صدقك واخلاصك سرد وقائع الاحداث وهذا ما نفتقده نحن طلبة دكتورة فيما بيننا فما اعيشه انا حالياً كوني طالب سنة ثانية دكتورة في نفس تخصصك هندسة مدنية وبحكم اني جديد في مجال البحث العلمي عندما تواجهني هذه العقبات دائما ما أستنجاد بأصحاب الخبرة ذو 4 و5 سنوات في دكتورة والذي حطمني فعلاً هو معرفتي ان هؤلاء" هما لي يغطيولك الحفرة بزربية " فأنت على غرار هؤلاء قررت مشاركتنا خبرتك و هذا منحتاجه فعلاً نحن كبدئيين في هذا المجال فبغض النظر عن الوسائل وإمكانيات العتاد المخبري الذي ذكرته من خلال قصتك التي الهمتني كثيراً والتي جعلتني ارى دكتورة من زاوية اخرى بارك الله فيك ربي يرحم والديك جزاك الله كل خير

    ردحذف
  6. لك منى كل الاحترام دكتور

    ردحذف
  7. سلام عليكم ورحمة الله. حقيقة شدتني صراحتك و انبساط النفسية عند سردك لهذه التجربة. كل التوفيق و النجاح سيدي الكريم . اذا كان ممكن هل بامكانك افادتنا بقاعدة البيانات التي جمعتها . اكون جد ممنون لك labomokhtari@yahoo.fr

    ردحذف
  8. بالتوفيق في باقي مشوارك العلمي

    ردحذف
  9. قصتك مع الدكتوراة تستحق أن يقرأها كل طالب مقبل مع الدكتوراة خصوصا رؤيتك لها على أنها فرصة تكوين وليس فقط منصب عمل

    ردحذف

إرسال تعليق