2- أهداف النشر الدولي وتاريخ نشأة المجلات العلمية المحكمة

لازلت أتذكر جيدا مرحلة الطفولة المرحة والبهية التي عشناها بكل براءة وعفوية ونحن نتلقى القصص تلوى القصص عن امهاتنا وجداتنا ومعلمينا في البيت، المسجد أو المدرسة. أجمل ما في تلك المرحلة خيالنا الذي على قدر ما كنا نستخدمه بشكل خاطئ على قدر كونه واسعا وشاملا وقد نفسر به أي شيء يدور حولنا. كنا نصدق حقا أن مخ الخروف يحتوي على دود صغير لا نراه وهو يعتبر ضارا للأطفال فقط، لذا كان هذا اللحم الشهي من نصيب الكبار في العيد. جعلتنا سذاجتنا وبراءتنا نصدق وجود الديناصورات ورجال يطيرون مثل سوبرمان، فضلا عن أشخاص تفيض قوتهم بالنار وأنا شخصيا أتذكر كيف كنت أكل الكبريت ضنا مني أنه سيحفز قوتي لأصير رجلا ناريا. سمعنا كثيرا عن العلم والعلماء وعن نيوتن الذي سقطت عليه تفاحة لتلهمه مبدأ الجاذبية ليبتكر لنا قوانين ومبادئ أسست عليها الفيزياء الكلاسيكية وكم كنت ماهرا في الثانوية في تطبيق قوانينه التي كنت أراها سهلة وبسيطة، حيث كنت أتسلى بالتمارين والامتحانات وأعتبرها متنفسا لي ومهربا من المواد الأدبية، وكنت لجهلي وسطحيتي دائما أتساءل لماذا كل هذا التهويل لما ابتكره نيوتن؟؟، كما سمعنا عن أرخميدس الذي سقط في الحمام أثناء استحمامه ليكتشف قوة غوص دافعة سميت لاحقا بدافعة أرخميدس نتيجة ملاحظته لحجم الماء المزاح بعد دخوله وهو في قمة التركيز ليخرج عاريا من الحمام ينادي يوريكا! يوريكا! (أي وجدتها وجدتها، يقصد أنه وجد الحل لمعضلة كانت تواجه العلم أنذاك) !! كما سمعنا عن أينشتاين ونظرياته التي قلب بها قوانين الفيزياء. كثير ماكان ينتابني سؤال حول كيفية شياع هذه العلوم ووصولها لنا بعد قرون وأزمان، فقد كنت طفلا شديد السؤال والبحث، على الرغم من سلاطتي. لكن من فرط سذاجتي الطفولية وسهولة تقبلي لأي فكرة كنت أتخيل العم أينشتاين وهو عجوز طاعن في السن يجتمع بأحفاده ليروي لهم عن قصص بطولاته الفيزيائية، والذين بدورهم قاموا بنشر بطولات جدهم العظيم وقصصه إلى أن بلغت أذان الجميع !!! كبرت على بساطتي المعتادة الى أن وصلت لمرحلة الدكتوراه أين سمعتهم يصرحون بوجوب نشر مقال علمي في مجلة دولية حتى نستطيع اجتياز هذه المرحلة العصيبة، ما هذه التعاسة وماهذا تكسار الرأس الذي أضافوه لنا، ألا يكفي أن نقوم بمذكرة جيدة ومقبولة مثل ما عهدناه في المراحل السابقة لإتمام هذه الدكتوراه اللعينة، ولماذا هذا المقال وما فائدته؟؟ دخلت مرحلة الدكتوراه ونضرتي للمقال على أنه عبئ إضافي زائد يجب على تجاوزه حتى أنتهي من الدكتوراه، وبدأت مرحلة القراءة والبحث والتصفح وكلي حماس ونشاط وثقة زائدة سرعان ما أطفئها لهيب الحقيقة والواقع.
نشأة المجلات العلمية:
لم تكد تنتهي المرحلة الأولى التي قضيتها في القراءة وجمع المعلومات العامة حول المنهجية والعلوم حتى كسرت كل معلوماتي المسبقة وحطمت خيشوم ثقتي التي بنيتها على أوهام وخيال طفولي. كيف لا وأنا قد دخلت لهذه المرحلة أملا في إيجاد تقنيات تساعدني في تخطي هذا العبئ المسمى بالمقال، لأخرج منها ونظرتي للمقال على أنه أهم، أجل وأعظم بل وجوهر العلوم. باختصار شديد، اهتمت الأقوام والحضارات منذ القدم على حفظ العلوم والتقنيات التي وصلوا اليها في المخطوطات والجدران الأثرية حتى يحافظوا عليها لتصل من جيل الى جيل. انتقلت العلوم والمفاهيم بالنشر في المخطوطات والجدران الاثرية بين مختلف الحضارات كالرومان، فارس، الصين، الفراعنة واليونانيون (أو الاغريق) وكانت الاخيرة أهم الحضارات وأعرقها على مر التاريخ في مختلف العلوم. ووصولا الى الحضارة الإسلامية أين نمت خاصة في زمن المأمون الذي اهتم بجمع العلوم المنشورة في المخطوطات من الحضارات السابقة وترجمتها الى العربية ومن ثم تطويرها ليصبح العالم الإسلامي حاضنة العلم أنداك، فقام المسلمون بتطوير العديد من النظريات والأبحاث ونشروها في مخطوطات وكتب ليسهل استخدامها في الأجيال القادمة وقد ساعدهم أنداك انتشار الورق الذي كان فيما سبق سرا يحافظ عليه الصينيون القدماء.
مخطوطة للعالم البيروني يشرح فيها دوران القمر حول الأرض

انتهت الحضارة الإسلامية بعد تحطيم أعظم مكتبة في العالم أنذاك، مكتبة بغداد من قبل المغول ملقين كل ما كان فيها من كنوز علمية ومعرفية في نهر الفرات حيث صنعوا منها جسرا يسهل لهم الوصول للطرف الأخر وكانت هذه الفعلة هي أعظم جريمة في الكون. بينما وصلت الحروب الصليبية من جهة أخرى لغرناطة أين تم إسقاطها اسقاطا تماما في القرن 16 ميلادي، وكانت تحوي على ثاني أكبر صرح علمي في العالم، أين قاموا بأخذ كل ما كتبه المسلمون من مخططات وكتب لينتقل العلم والحضارة آنذاك لأوروبا الذين تخلوا فيما بعد عن الفكر الكنسي وعارضوه وانتقدوه علانية ليخرجوا من عصورهم المظلمة. وظهرت المدارس الفلسفية الحديثة في عصر النهضة أو التنوير في أوروبا كصدى لأفكار الفلاسفة المسلمين. بعد تحطم أهم حاضنتين للعلم في الحضارة الاسلامية وضياع كل ما ابتكره المسلمون خلال قرون لم يعد بين أيدينا الأن أي دليل يثبت إنجازات العلماء المسلمون إلا بعض المخطوطات والكتب التي تحتفظ بها كبرى الجامعات الأوروبية (وخاصة الألمان) والتي تنسبها لعلماء مسلمون بحكم أن الضمير العلمي يحثهم على الصدق والإخلاص ونسب الحقوق لأهلها، بينما قام الكثير من العلماء الأوروبيين عديمي الضمير بسرقة اختراعات ونظريات علماء مسلمون ونسبها لأنفسهم، ويمكن الرجوع الى كتب ومصادر أوردها لاحقا للتحقق. مع بداية الثورة الصناعية الأوروبية وحتى يتجنبوا الأخطاء التي وقعت فيها الحظارة الإسلامية من قبلهم، والتي كلفتهم ضياع كل ما طوروه من علوم وتقنيات، قاموا بابتكار نظام جديد وهو عبارة عن دوريات علمية متجددة تنشر أبحاثاً متخصصة في مجال محدد بعد أن تقوم بتحكيم هذه الأبحاث من قبل عدد من المتخصصين في نفس المجال، بهدف نشر آخر ما توصل له الباحثين من نتائج أو لانتقاد ومناقشة نتائج الأبحاث التي نشرت سابقاً، ضامنين في نفس الوقت تواصل التراكم المعرفي، وقد سميت بالمجلات العلمية التي أصبحت فيما بعد محكمة. أول مجلة علمية نشأت عام 1665 م في فرنسا وكان اسمها Journal des sçavans لتنشأ بعدها مباشرة مجلة أخرى انجليزية Philosophical Transactions of the Royal Society، وتوالت فيما بعد الجامعات العالمية لإنشاء هذا النظام المحكم القائم على حفظ الأفكار المطورة للعلوم ونشرها مع حفظ كل الحقوق لصاحبها، ومن هنا بدأ استخدام المجلات العلمية المحكمة في البحث العلمي وأصبح استخدامها جزءا من مهنة الباحث لتصير فيما بعد علما وفنا قائما بذاته.

غلاف المجلد الأول لمجلة المعاملات الفلسفية للمجتمع الملكي، أول مجلة في العالم مخصصة حصريًا للعلوم

بالرجوع الى السؤال الذي طرحته في صغري والذي أوردته مقدمة هذا الموضوع حول كيفية شياع العلوم وانتشارها في زماننا فقد خرجت بجواب منطقي مقنع، النشر العلمي في المجلات العلمية المحكمة كان هو السبب الرئيسي في ذلك. لم تنتشر قوانين نيوتن في الأرجاء أبدا بسبب أسطورة تفاحة سقطت على رأسه كما يسوق لنا بل لكونه نشر أبحاثه ونتائجه في مجلات علمية، على الرغم من كونه نشرها متأخرا ب 18 سنة، ولم يكن لينشرها الا بعد تشجيع أستاذه له كما يقال، فلو كانت قصة التفاحة منطقية لاشتهر نيوتن وانتشرت نتائج قوانينه خلال الثمانية عشر الأولى قبل نشر أبحاثه. وكذلك أينشتاين في سنة 1905 أين قام وهو الشاب ذو 26 ربيعا حيث لم يكن يعرفه أحد، بنشر 3 ورقات علمية ليثبت فيهم نظريته النسبية الشهيرة التي قلب بها قوانين الفيزياء أنذاك رغم أنه لم يكن أكثر من طالب دكتوراه مقبل على مناقشة أطروحته!! وهلم جرا الى بقية الاختراعات في مختلف المجالات التي ندين لها بحياتنا، كلها كانت نتيجة تراكمات خبرات ومنشورات محكمة لتنتهي فيما بعد باختراعات ملموسة، وليتضح المقال سأضرب بعض الأمثلة، إذ كيف كنا سنعيش بدون منشورات أديسون التي كانت سببا في استخدام الكهرباء والهاتف، والتلفاز؟؟ كيف كنا سنعيش بدون أدوية وأساليب الطب الحديث التي كانت نتيجة تراكمات علمية منشورة؟؟ كيف كنا سنعيش بدون تقنيات تماسك التربة التي تحافظ عليها من كوارث طبيعية كانت قديما تؤدي الى وفاة الألاف في كارثة واحدة، والتي كانت أيضا نتيجة خبرات علمية متراكمة ومنشورة، وهلم جرا الى بقية الميادين والعلوم كالطب والبيطرة والرياضيا والفيزياء والميكانيك والكيمياء والفلك والزراعة ........

جزء من بحث ألبرت أينشتاين المنشور في مجلة Annalen der Physik والمترجم من الألمانية للانجليزية، عام 1905 والذي أثبت فيه نظريته النسبية

أهداف النشر الدولي

 بعد أن عرفنا تاريخ ودور النشر الدولي للمقالات المحكمة في حفظ العلوم وتطورها، أعود الأن للهدف الرئيسي من الموضوع، ما هو الحافز والدافع والسبب الذي يدفع بالباحث الى نشر أبحاثه؟؟ كلما كان الهدف كبير وصعب المنال كلما احتاج لجهد كبير لتحقيقه، فلماذا نتكبد بأنفسنا كل هذا الجهد لنشر المقال؟؟ في الحقيقة وحسب رأيي وخبرتي المتواضعة هناك أسباب دنيوية وأخرى أخروية، ألخصها النقاط التالية الذكر:
-        صدقة جارية: في ديننا الحنيف نحن المسلمون نرى أن العلم النافع الذي ننشره بإخلاص ونتركه بعد وفاتنا للبشرية جمعاء يعتبر صدقة جارية لنا ولمن علمنا، نستفيد منه حتى بعد موتنا، وقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" لذا على الباحث مهما كانت عضويته طالبا أو مدرسا أن يستحضر النية الصحيحة قبل نشر البحث.
-        إثبات الوجود الأكاديمي: النشر الدولي يعتبر البوابة الأولى للوصول للدكتوراه، فالقوانين الدولية تشترط النشر على كل طالب قبل أن يناقش مذكرة الدكتوراه. بالإضافة الى كون النشر الدولي يساعد على الترقية لوظائف أخرى، مثلا في القوانين الجزائرية للوصول لدرجة التأهيل (أستاذ مؤهل صنف أ MCA) تشترط القوانين على الباحث على الأقل نشر مقال واحد صنف أ أو ب، وكذلك للوصول لدرجة بروفيسار.
-        الحصول على تمويل بحثي: الكثير من المنظمات والجمعيات الحكومية والخاصة تقوم بتمويل مشاريع البحث الهامة، وخاصة في العالم الغربي، ومن أجل الحصول على تمويل منها من المفروض أن يثبت الباحث كفاءته التي تقاس بعدد الأبحاث المنشورة في المجلات الدولية المحكمة، كلما نشرت أبحاثا أكثر كلما ازدادت فرصة حصولك على تمويل للبحث.
-        إثراء السيرة الذاتية CV: ساعات التدريس وحدها غير كافية لإثبات قدراتك كباحث، فالعدد الكبير من الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية الدولية المحكة ذو المستوى العالي قد يجعل من سيرتك الذاتية ذو ثقل علمي، وقد يزيد من فرصك في الحصول على وظائف أفضل في جامعات أو مخابر بحث أرقى.
-        إقناع الأخرين بقدراتك: حديثا هناك تصنيفات جديدة تقوم بها عدة مواقع لتصنيف الباحثين حسب عدد أبحاثهم وعدد إقتباسهم في الأبحاث الأخرى، من أهمها indice H. كما يأخذ عدد وجودة الأبحاث العلمية معامل كبير في نظام تقييم الجامعات عالميا، لذا قد نرفع نسبة جامعاتنا التي ندرس أو نعمل فيها، أو الصورة العامة للباحثين الجزائريين أو العرب بصفة عامة من خلال عدد أبحاثنا المنشورة في المجلات العلمية الدولية المحكمة، فنحن العرب والمسلمون أيضا لدينا القدرة على خوض الصعاب ونشر الأبحاث في مجلات دولية محكمة أيضا.
الهدف من هذه السلسلة:

بصفة عامة سألخص ما سأقوم به في المراحل القادمة من هذه السلسلة التي أروجوا أن أنفع بها إخواني وأخواتي الطلبة والباحثين:

-        سأوضح مراحل عملية النشر في المجلات الدولية المحكمة خطوة بخطوة حتى أنزع حاجز الهيبة والخوف خاصة لدى الطلبة. حيث يعتبر من الصعب نوعا ما النشر بدون فهم هذه النقاط.
-        سأحاول أن أشرح ترتيب المجلات أو الدوريات العلمية ومختلف التصنيفات وقواعد البيانات.
-        سأحاول أن أشرح النظام المتبع والتقنيات اللازمة للنشر، فو فهنا النظام سنستطيع بسهولة التعامل معه لنغزوا أسواق البحث الدولية (وهذه هي أهم نقطة على الاطلاق)
-        سأزرع في الطالب الاستعداد الكافي لتعلم كيفية النشر وردود الفعل المناسبة. سيكون هناك نقد محكم للبحث وردود علمية على الباحث أن يكون مستعدا لها وأن يتعلم الطريق الأنسب للرد عليها، سيكون هناك أحيانا رفض للبحث خاصة للطالب الذي يبعث أول مرة، على الطالب ألا يصاب بالإحباط فيترك الموضوع او ينشر بحثه في مجلات محلية أو مجلات دولية ذو سمعة ضعيفة، عليه أن يتعامل بمرونة ومنطقية لتطوير مهاراته كباحث بدل التعامل بعاطفة انفعالية.

-        سأحاول أن أضرب أمثلة وتجارب خاصة بالواقع الجزائري، لأني أعي جيدا الفرق بين الظروف المتاحة للطالب الأوروبي ونظيره الجزائري، وحتى في الشرح سأراعي فيه واقع الطالب في الجزائر وسأحاول أن أطرح حلولا لأكثر المشاكل التي يعاني منها الباحث الجزائري.

في الأخير يسرني أن أتلقى إضافات أو نصائحكم لتطوير المادة العلمية التي نشرتها في هذا الموضوع، وإلى أن أنشر موضوعا جديدا بالأسبوع المقبل أتمنى لكم دوام الصحة والعافية.

أخووكم محمد الأمين بن بوراس ^^

تعليقات

  1. بارك الله فيك دكتور أمين، في انتظار نشر النقاط المنتظرة نشكرك على مجهوداتك وأحيي روح الإخلاص فيك التي رزقك الله وأنت تعلم علم اليقين أنه ليس من السهل أن يحظى بها الطالب في ظل انتشار الأنانية وعدم مشاركة المحصول أو الإنطوائية والخوف من الظهور نتيجة لنقص الثقة أو خوفا من عدم النجاح وكلام الغير. فأرجو أن تكون قدوة لغيرك ليشاركو نجاحاتهم أو أفكارهم أو تجاربهم ليسهلو الطريق أمام اللاحقين من الباحثين ويكون عملهم وجهدهم صدقة لهم..

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا على الكلمات التشجيعية، أتمنى لكم التوفيق والنجاح من كل قلبي

      حذف

إرسال تعليق